عندما نذكر البيت ، فأول شيء يتبادر للذهن هو ذلك المكان الذي نعود اليه للأكل و النوم وقضاء وقت في الراحة و الاسترخاء ، و تبعا لذلك فالمرأة كربة بيت هي القائمة و المسؤولة الأولى على راحة و متعة ساكنيه ، و حتى الضيوف و الزوار هي مسؤولة على حسن ضيافتهم و خدمتهم . وهذا ليس عيبا بل يبرهن أكثر على أن المرأة في بيتها يمكن أن تخوض غمار الكثير من جوانب الحياة . فتحقيق الراحة و الاطمئنان في حياة جميع افرد أسرتها معناه أنها تعطي الطاقة الإيجابية لهم و تمدهم بكل ما يؤهلهم و يساعدهم على أداء دورهم في الحياة و المجتمع . فجميع الدراسات أثبتت أن من يتوفر على بيت مستقر يغمره الحنان و الاستقرار دائما يكون يكون ناجحا لحد بعيد في أداء دوره في المجتمع سواء كان عاملا أو متعلما ، لكن الإشكالية التي تطرح هو أن المجتمع غافل عن دور مهم يمكن أن تقوم به المرأة داخل بيتها أو يتجاهله و ربما اغفاله هو الذي جعل المجتمع مرتبك في مسيرته نحو التنمية و الرقي.
لبيت هو المكان الذي يرجع اليه كل فرد ناشط من العمل أو الدراسة ليس فقط للاستمتاع بالراحة و الهدوء و المتعة ، بل للتفكر ايضا بأحوال الحياة و همومها و إعادة ترتيبها و التحديات التي تواجه الاسرة و تكون المرأة أو ربة البيت القائم الأول على هذه المشاورات و المتابعات و الترتيبات ، فهي إذن الجندي المجهول الذي يقف وراء استقرار الاسرة و تنظيم مسارها و توزيع الادوار بين أفراد الأسرة أو التنسيق بينها حتى تحافظ على توازنها ، و الاسرة كما نعلم هي الخلية الأولى للمجتمع لذلك إن كنا نرغب بمجتمع مستقر يسير دوما نحو الافضل فعلينا أن نهتم بالأسرة و في مقدمتها ربتها و هي المرأة سواء كانت أما أو إبنة أو مساعدة داخل الأسرة.
في المجتمعات القديمة كانت مهمة العناية بالبيت تسند للمرأة بينما يخرج الرجل للعمل خارجه علما أن هذا التقسيم فرضته الطبيعة ، لأن عملية الكسب كانت صعبة لا تتحملها المرأة مثل الصيد البري أو البحري أو فلاحة الأرض التي تتطلب أجساما و عضلات قوية كما الاستعداد النفسي الشجاع لمواجهة المخاطر ، أما المرأة فتبقى بالبيت في أمان مع صغارها تهتم بكل اسباب راحتهم و راحة الزوج ، لكن بمرور الزمن و تطور الحياة و وسائل تدبيرها لم تعد طبيعة التكوين تتحكم في الأدوار التي تسند للمرأة أو الرجل بل صارت الثقافات هي التي تحدد ذلك.
تمكين المرأة العربية هو بند من بنود منظومة تحرير المرأة و هذه الاخيرة جزء من ثقافة الحداثة و المد الفكري الغربي الذي رافق الغزو العسكري الغربي لبلادنا العربية بدايات القرن 19 م . و ينكب هذا المشروع أساسا على تحرير المرأة من قيود ثقافتها الوطنية و المحلية ” الرجعية ” للحاق بموكب الحضارة و الرقي على الشاكلة الغربية ، و مازالت المحاولات مستميتة من أجل إنجاح هذا المشروع وقد استحدثوا له برامج و مؤسسات اجتماعية و صار جزء من التشريعات و القوانين المدافعة عن حقوق الانسان أو بالأحرى المرأة وقد اجتزأت عن شقيقها في الانسانية ” الرجل ” و المجتمع ككل حين أريد لها أن تثور على المعطيات الثقافية و الاجتماعية لمجموعتها البشرية . فبدأت المرأة العربية تتطلع للخروج من البيت و العمل خارجه خاصة مع ظهور تيارات و منظمات تحفزها على ذلك و تعتبره حقا من حقوقها وتوهمها انه السبيل الوحيد للتحرر و اثبات الذات و بالتالي تحقيق الرفاه و الاطمئنان و صون الكرامة.
من هنا بدأت الاشكالية ، فلكل مجتمع معاييره الاخلاقية و موازينه الثقافية و مفاهيمه التي تحكم توجهاته و سلوكياته مستمدة من معطياته التاريخية و النفسية و الاجتماعية و الثقافية في مقدمتها الدين و العقيدة . هذا على مستوى المجتمع ككل ، أما بالنسبة للجنسين المرأة و الرجل فتحكمهما زيادة على تلك المعايير الطبيعة و الفطرة ، فالتكوين الفيزيولوجي لكليهما مختلف عن الاخر و كذلك النفسي به بعض الاختلاف لذلك و قبل أن نضع اي برنامج لتمكين المرأة علينا أن نراعي كل تلك الاعتبارات ، الظروف الاجتماعية و التاريخية و الثقافية و الدينية .. و كذلك تنظيم علاقتها بالرجل حتى لا نلقي بها في صراعات و تحديات لن تزيد حياتها الا تعقيدا و شقاء.
المرأة العربية ، وبغض النظر عن مستواها الاجتماعي أو التعليمي و الثقافي ، فإنها تمتلك مواهب و قدرات خلاقة حباها بها المجتمع ، فالفتاة في مجتمعاتنا العربية على الخصوص تتربى على اخلاقيات و عادات تؤهلها لتكون ربة بيت جيدة و ممتازة.
فالأم عادة ما تجتهد في هذه المسألة و لا ترى النجاح لابنتها في الحياة إلا إذا كانت مؤهلة لتسيير شأن أسرة و تحقيق الاستقرار و السعادة لها و امتصاص غضب أو قلق الزوج و معالجة أي ظروف طارئة بالبيت بصبر و حكمة ، هذا الأمر يمنح الفتاة فرصة لتدبير شؤون الحياة من كل النواحي ، و بالتالي الاهتمام أكثر بالشأن العام ، تقلبات الاسعار ، اقتناص الفرص الشرائية ببعض المناسبات ، ادخار الاموال تحسبا للأزمات أو استعدادا لمناسبات و أعياد قادمة و هكذا .. ، زيادة على الصبر و تحمل التقلبات النفسية و المزاجية للرجل و للأسرة ككل بدون كلل أو ملل . وبالتالي يبقى السؤال هنا ، كيف نستفيد أو نستثمر كل هذه القدرات لصالح المرأة نفسها و المجتمع ؟
نعود هنا لتعريف التمكين حسب المفهوم العام ، وهو امتلاك المرأة للموارد الاقتصادية و الامكانيات التي تمكنها من إنشاء مشروع خاص ، و التمكن من إدارة مشروعها و تحديد اهدافه ، ثم الانجازات و اولها تحقيق مكسب مادي يمكنها من تحسين مستواها المعيشي.
بالنسبة للموارد ، فاول شيء يتوفر للمرأة هو البيت سواء بيت الاسرة أو الزوجية ، و البيت مساحة مهمة في المجال الاقتصادي و إنشاء المشاريع الصغرى و المتناهية الصغر ، و بإمكان المرأة أن تستثمر فيه مواهبها و قدراتها سواء في الطبخ أو الاشغال اليدوية المتنوعة أو حتى المشاريع الثقافية و التعليمية إن كان لديها مستوى علمي أو ثقافي معين إذن فالموارد الاساسية متاحة.
بالنسبة للبند الثاني وهو الادارة ، المرأة هي الاقدر على متابعة السوق و الاحتياجات الضرورية و الكمالية ، وتستطيع كذلك تحديد المستوى المعيشي و القدرات الشرائية للوسط الذي تعيش فيه و بناء على ذلك يمكنها تحديد مناسبات العرض و نوعية المنتوج الذي يليق للظرف كما يمكنها التنويع في المعروض حسب المناسبات و الظروف و لا تتقيد بمنتوج واحد كما المشاريع الكبرى . و هذا يعطي لعملها و مشروعها ليونة أكثر و يحميها من الخسائر.
و بالنسبة للإنجازات ، و هو البند الاخير في قضية التمكين ، فعندما يتوفر للمرأة فضاء أو مساحة العمل فإن هذا يوفر لها اكثر من نصف التكاليف و البيت هو مكان مناسب لأي نشاط خاصة إذا تعلق بحرفة يدوية أو مهارة ، ثم مواد و وسائل الانتاج التي يمكنها أن توفرها من مدخرات مصروف البيت أو بنظام الجمعيات النسوية إن لم يكن لها مورد آخر ، اما رأس المال فهو مهاراتها و ما تتقن من عمل ، فكل شيء مطلوب في السوق .. و بذلك ستكون المردودية مجزية و فرص الخسارة ضئيلة جدا.
لكن أهم شيء هو دعم المجتمع لها و بخاصة الأسرة و في مقدمتهم الرجل سواء كان أب أو زوج أو أخ ، ثم دعم الدولة المتمثل في تسهيل تسويق منتوجاتها بفتح بوابات و منافذ خاصة بتصريف بضائع الأسر المنتجة مع إعفاء ضريبي تام ، كما تنظيم معارض مستمرة و متحركة في الداخل و الخارج بالتنسيق مع منظمات تهتم بأحوال و حقوق المرأة . إضافة لدعمها ماديا عند الحاجة و تزويدها بالوسائل الضرورية لتسهيل الإنتاج و بهذا سوف نستفيد من طاقات مازالت معطلة في مجتمعاتنا و المتمثلة في ” ربات البيوت ” و البيوت كذلك كمؤسسات تنموية.
و بالنسبة لفئة أخرى وهي فئة ” أصحاب القدرات الخاصة ” فالمكان الأنسب لهم هو بيوتهم لتلقي الرعاية الكاملة و الطبيعية تحت إشراف أهلهم و بين أحضان أمهاتهم و هذه الفئة يلزمها برامج خاصة تطبق داخل بيوتهم تمكنهم من الادماج في منظومة التنمية كل حسب قدراته . و بهذا سنتمكن من إدماج البيت و المرأة إلى جانب أصحاب القدرات الخاصة داخله في عملية التنمية و إبراز دور البيت و أهميته في تحريك عجلة الاقتصاد و الرقي بالمجتمع.
و أهم شيء أن نتخلص من تلك النظرة الدونية التي ورثناها عن ربة البيت و البيت ككل كونه مقر للاستراحة و الدعة والمرأة بداخله مجرد خادمة وقائمة على راحة و رفاهية ساكنيه و نغفل دوره و أهميته في حياة المجتمع إقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا كذلك . فهو المعيار الأول لاستقرار المجتمع من عدمه وهو أول مؤسسة تتأثر بالتقلبات السياسية أو الاجتماعية و الاقتصادية لهذا وجب الانتباه و المبادرة بالعناية به و بالمرأة داخله.
للتواصل مع الكاتبة argana_63@live.fr