
تعتبر الأسرة من أهم المنظمات الاجتماعية التي عرفها الانسان ، واهتدى إليها عن طريق الفطرة وذلك عبر انسجام الجنسين داخل فضاء واحد ليؤسسا للجماعة الأولى ، التي هي الأسرة ، التي تضمن بقاء النوع و تكاثره ،لتتسع الدائرة حتى تصبح مجتمعا بشريا يؤدي دوره في الحياة و يتفاعل مع الموجودات على وجه الأرض لتكتمل صورة الحياة.
ومن الأسرة تنطلق مسيرة الحياة و تتطور عبر العصور. و ذلك عبر الثقافات و المفاهيم التي تزرعها في نفوس و عقول الأبناء و ما يترتب عنها من تفاعل و تلاقح مع الثقافات و الحضارات من حولها . لهذا كان الاهتمام واجبا و ضرورة ملحة بهذه المؤسسة الاجتماعية أي الأسرة.
عرفت مدونة الأسرة بالمغرب تحديات عميقة منذ أن بدأت القيادة المغربية العليا الممثلة في المؤسسة الملكية بالنظر بشأنها ، من جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله ، مرورا بجلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله إلى جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
بعد حصول المغرب على استقلاله من الاحتلال الفرنسي الذي كان يهيمن على القانون المغربي صياغة و تطبيقا بحكم الاستعمار ، بات ضروريا مراجعة القوانين المغربية خاصة ما تعلق بقانون الأسرة بما يتفق مع خصوصية المغرب المستقل الذي تشكل الشريعة الإسلامية منهله الرئيسي في تنظيم العلاقات الاجتماعية بين مواطنيه. ومن تلك القوانين و أهمها هو قانون الأسرة ، لما يتضمنه من بنود حساسة تساهم بشدة في حفظ نظام المجتمع و استقراره ، ومن تلك البنود ، قانون الزواج و الطلاق و الإرث.
في البدأ لم يكن هناك إطار تشريعي رسمي للأسرة ، بل يقتصر الأمر على تنظيم علاقاتها وفق أحكام الشريعة الإسلامية و الراجح من مذهب الإمام مالك و العرف السائد بكل منطقة . لذلك عمد الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله على العمل لإخراج قانون للأحوال الشخصية يعتمد على المبادئ الثابتة في الشريعة الإسلامية بالاستعانة بما يتسق معها من عرف أو اجتهاد.
وعلى نفس النهج و الاجتهاد في تطوير قانون الاسرة ، سار الملك الحسن الثاني على نفس خطى والده و ذلك بتعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 1993 استجابة لمطالب المجتمع المدني خاصة فعاليات الحركات النسائية ، التي اشتد عودها بدعم أممي . وبعد مخاض عسير و مشاورات مع منظمات نسائية و حقوقية وبين فقهاء الدين و الشريعة الاسلامية ، استطاع إخراج قانون احترم فيه ثوابت الشريعة خاصة ما يخص قانون الزواج و الطلاق و الإرث و التعدد .هذه البنود التي بقيت إلى الان محل جدل واسع بين منظمات المجتمع المدني خاصة تلك التي تهتم بحقوق المرأة و التي تنهل من قوانين وضعية أممية تتعارض بكثير منها مع ضمير الشعب المتمثل في الأعراف و التقاليد و الثوابت الدينية التي قالت كلمتها بهذا الشأن.
هذا و قد استطاع الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله أن يخلق نوعا من التوافق بين كل أولائك الفرقاء و يخرج بقانون يخفف من وطأة الخلاف ، وذلك بوضع ضوابط تنظم عملية التعدد دون منعها وتركها للحالات الخاصة و توافق الزوجين مع سن قوانين تكفل مصلحة و حقوق الزوجة الأولى و أسرتها.
أما الملك محمد السادس فقد سار لأبعد من ذلك بخصوص قانون الأسرة حيث لم يقتصر على إعادة النظر في قانون الأحوال الشخصية الذي مازالت الأصوات النسائية و الحقوقية تنادي بتطويره و تعديله بما يتناسب مع متطلبات العصر ، بل مضى لإحالته على البرلمان المغربي للمصادقة عليه . وتعتبر هذه الخطوة بمثابة توسيع المشاركة لتشمل جميع منظمات الشعب و في مقدمتها البرلمان الذي يعتبر أهم ممثل للمجتمع المغربي و الممثل في نوابه .كذلك لإعطاء اعتبار و دينامية أقوى لهذه المؤسسة التشريعية.
وقبل النظر في قانون الاسرة من طرف البرلمان ، و الذي هو مازال في طور النقاش العام ، مازالت المنظمات النسائية تستميت من أجل إقرار القوانين التي تحتفظ بها في ملفاتها الهامة و التي تتوافق مع القوانين الأممية و بعض البروتوكولات مثل بروتوكول ” سيداو ” الذي تتعارض الكثير من بنوده مع مبادئ الشريعة الاسلامية المعمول بها بالمغرب فيما يخص الأحوال الشخصية . وقد شحذت هذه المنظمات النسوية كل أسلحتها من أجل الاجهاز على بنود أساسية تشملها الشريعة الاسلامية و هي :
” الإرث ” بحيث يطالبوا بإخضاعه لبند المساواة الكاملة بين الجنسيين ” التعدد ” منعه منعا كليا بحيث لا يحق للرجل الزواج إلا من واحدة فقط هذا إضافة لبنود أخرى كتحديد سن الزواج و منع زواج القاصرات ما تحت السن القانوني المتوافق عليه عالميا . كما استقلالية المرأة استقلالا كاملا و عدم اشتراط موافقة الزوج و الاستئذان منه من أجل التمتع ببعض الرغبات.
لكن تبقى هذه البنود خاضعة للتوافق بين الزوجين و أحوال الفتاة المقبلة على الزواج والرأي العام و الإعتراف و التقاليد السائدة التي يصعب دائما تجاوزها لكن البنود و القوانين التي قالت فيها الشريعة الاسلامية كلمتها فلن يستطيع أي تعديل المساس بها مهما سيغ لها من برتوكولات و اتفاقيات دولية و مهما تعرضت له من ضغوطات.
وقد قالها جلالة الملك محمد السادس حفظه الله في خطاب له ردا على نداءات هذه المنظمات النسائية و الحقوقية بكل وضوح و اقتضاب ” .. أنا لا يمكنني أن أحلل ما حرمه الله أو أحرم ما أحله الله.
في إشارة واضحة لمطلب منع التعدد و المساواة بين الجنسين في الإرث أما الشارع المغربي فيتابع هذه السجالات بحذر بل بذعر أحيانا لأن الشباب يرون فيها حيفا و تعسفا على بعض من حقوقهم ، و تحريض النساء على التمرد على الزوج و الأسرة ، مما جعلهم يهددون بدورهم بالعزوف عن الزواج و العيش بسلام على الطريقة الغربية.
وحتى الفتيات ينتابهن بعض من الانزعاج وعدم الرضا على هذه التعديلات و المطالبات لأنهن يرين في مجملها تخفيفا من مسؤوليات الرجل و إعفاءه من بعضها كليا ، كمسألة القوامة المفروضة على الرجل باتجاه المرأة في التشريع الإسلامي و التي يعصف بها مبدأ المساواة المطلقة على الصيغة الغربية المراد تطبيقها.
فالمساواة المطلوبة تقتضي تقاسم المسؤولية المادية بالتساوي بين الرجل و المرأة و كذلك الإرث .وهذا سيجبر المرأة على اعالة نفسها بكل الأحوال وتتضاعف عليها المسؤولية و الجهد عند الحمل و الولادة و العناية بالأطفال التي تنال منها حظ الأسد.
وعليه فهذا المطلب سيكون غير منصف للمرأة و لصالح الرجل . في حين أن الوضع الصحيح هو الذي تقره الشريعة وهو مبدأ القوامة الذي يعدل بكل دقة ميزان الحقوق و الواجبات بين الرجل و المرأة ، خاصة في الإرث الذي هو بيت القصيد بالنسبة لهذه المنظمات النسوية و الحقوقية .فإن كان الارث يقسم بين الذكور و الاناث بالطريقة التي شرعها الاسلام ، فهو معزز بقوانين و ضوابط تجعل المرأة تستفيد منه بما يضمن حقوقها الطبيعية . ومن هذه الضوابط مبدأ القوامة على المرأة وهو العناية بكل مستلزماتها للعيش بكرامة وهذه مسؤولية تقع على عاتق الرجل سواء كان ابا أو زوجا أو أخا أو عما أو خالا و جميع من يجوز له مشاركتها في الإرث وهذا دون المساس بنصيبها .وتبقى هذه القوامة سارية حتى دون وجود إرث ، و الذي يتواجد بنسبة ضئيلة جدا بالمجتمع المغربي و تأثيره محدود جدا في العلاقات بين افراد المجتمع.
أما فيما يخص التعدد فقد وضع على طاولة النقاش منذ المحاولات الأولى لتعديل مدونة الأسرة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني و الذي وجدوا له مخرجات تتفق مع الشريعة الاسلامية تضمن استقرار الاسرة التي هي الهدف الأسمى من كل هذه التعديلات و القوانين. فوضعوا ضوابط تتيح التعدد في أضيق الأحوال مع مراعاة حقوق الزوجة الأولى في الحياة الكريمة ن هذا في حالة تمتع الزوج بالاستطاعة أي فتح بيت آخر و إيفاء الزوجة الثانية جميع حقوقها في الحياة الكريمة ، أما من يتعذر عليه ذلك فيمنع عنه التعدد بحكم القانون ، وهذا ينسجم مع مبادئ الشريعة ” فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا” .النساء ، الآية 3
إلا أن هذه المرة رجع بند التعدد و المساواة في الإرث بقوة إلى ساحة النقاش و السجال ، وتحت وطأة مطالبات و إملاءات خارجية فرضتها متغيرات عالمية تتعلق بإعادة تنظيم العلاقة بين الرجل و المرأة حتى و إن كانت توسع الهوة بينهما بدلا من إيجاد الستوفيق بين أدوارهما في الحياة لتحقيق التكامل و الانسجام المطلوب بينهما للعيش في استقرار.
هذه الهوة التي خلقها التغاضي أو تهميش الجانب الإنساني في العلاقات الإنسانية وأولها العلاقة بين الرجل و المرأة .فهذه العلاقة لا يمكن أن يقومها أو يحفظها في إطار أفضل و أنفع إلا الجانب الإنساني . أما القوانين فيسهل تجاوزها أو الالتفاف عليها إن اقتضت المصلحة الأنانية ذلك.
وليس هناك افضل من التشريع الإسلامي الذي يربي الإنسان منذ نعومة اظافره على استيعاب حقوق الغير و التجرد من الأنانية قبل أن يسطر القوانين لتنظيم علاقاته في المجتمع و الحياة ، فبالنسبة للحق العام ” لا يومن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ” الحديث . و بالنسبة للعلاقة بين الزوجين ” ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الروم الآية 21.
فالمودة و الرحمة هي أساس هذه العلاقة ، و المساحة التي يجب أن تطبق داخلها جميع القوانين القوانين التي تسطر أساسا من أجل حماية البعد الانساني في العلاقات داخل كل التجمعات البشرية و أولها الأسرة ، الخلية الأولى للمجتمع ، فالبعد الانساني هو الذي يجب مراعاته و التشبث به داخل كل أسرة . فالحب و الحنان و التراحم و الصبر و التفاني من أجل اسعاد الآخر هو الشيء الوحيد الذي يضمن استقرار الأسرة و سعادتها . وليس هناك أي قانون يمكنه تعويض هذه المشاعر و القيم الإنسانية . بل القوانين وجدت من أجل حماية هذه المشاعر الإنسانية و تعزيزها داخل المجتمع . فعندما يظلم الرجل زوجته أو يعاملها معاملة سيئة ، فإنه هنا يتجرد من المشاعر الإنسانية وإن تمادى يجب أن يتدخل القانون من أجل تصويب الحالة و معالجة الأمر لتعود الاسرة لاستقرارها . أما وضع قوانين مسبقة لا تتفق مع ثقافة الشعب و أعرافه و عقيدته التي تعود العيش في كنفها و مكنته من الكثير من الاستقرار . فإننا بذلك نعمل على خلق القلق والكثير من الاضطرابات التي يمكن أن تطيح باستقرار الأسرة و سعادة المرأة.
للتواصل مع الكاتبة argana_63@live.fr