مع الاختلاف الحاصل بين الدول الإسلامية في تحديد بداية شهر رمضان المبارك الحالي، تكثر النقاشات حول صحة بداية الشهر الفضيل، وفيما يلي تفصيل حول الحقائق المتعلقة بذلك.
للوهلة الأولى قد يبدو للمتابع أن العديد من الدول العربية أو الإسلامية أعلنت فعلا رؤية الهلال مساء يوم أمس الجمعة 01 نيسان، إلا أن الواقع مناقض لذلك تماما! فأما بالنسبة للدول التي تحرت الهلال ولم تثبت رؤيته فكان من أوّلها إندونيسيا التي تحرت الهلال من 101 موقع منتشر في مختلف أنحاء الدولة ولم تثبت رؤيته من أي موقع فيها، وتبعتها بذلك ماليزيا وبروناي. وبعد ذلك تحرت إيران الهلال من العديد من المواقع والجبال المرتفعة وأيضا لم تثبت لديهم الرؤية، وبعد ذلك تحرت سلطنة عمان الهلال بشكل دقيق من قبل 25 لجنة مستخدمين التلسكوبات المحوسبة والكاميرات الرقمية وأيضا لم تثبت لديهم الرؤية، وفي أقصى الغرب قامت المملكة المغربية بتحري الهلال من قبل 227 لجنة منتشرة في جميع أنحاء المملكة.
وبمشاركة القوات المسلحة، وعلى الرغم من كونهم في أقصى الغرب حيث قيم الهلال هي الأفضل وعمره أكبر وإضاءته أعلى وسمكه أكبر، وعلى الرغم من الخبرة العالية التي يتمتع بها راصدو الأهلّة في المملكة المغربية فإنهم أكدوا جميعا عدم ثبوت رؤية الهلال. وعلى ذلك ستبدأ جميع هذه الدول شهر رمضان يوم الأحد.
ومن جهة أخرى تجدر الإشارة إلى يوم التحري وهو يوم 29 شعبان في باكستان والهند وبنغلادش هو اليوم السبت، ليعلن بعد الغروب فيما إن كان رمضان سيبدأ فيها يوم الأحد أو الإثنين، والمتوقع أن يكون يوم الأحد كون رؤية الهلال اليوم السبت ممكنة بالعين المجردة بسهولة.
أما بالنسبة للدول التي أعلنت أنّ السبت أول أيام شهر رمضان المبارك، فجلّها اعتمد على شهادة رؤية من دولة واحدة فقط، إذ في الواقع لم يتقدم أحد برؤية الهلال في الكويت والبحرين وقطر والإمارات واليمن ولبنان، فكما جرت العادة اعتمدت على رؤية السعودية. وكذلك نص البيان الرسمي للعديد من الدول إما ضمنا أو صراحة على عدم ثبوت رؤية الهلال، ولكن تم الإعلان عن بدء الشهر بناء على قرارات الدول المجاورة، ومن هذه الدول سوريا والسودان وليبيا وتونس والجزائر. وفي العراق أكد فريق الرصد الفلكي المتواجد في حفل إعلان شهر رمضان الذي أقامه ديوان الوقف السني والذي كان مزودا بتلسكوب محوسب، أكد على الهواء مباشرة أنه لم يتمكن من رؤية الهلال حتى باستخدام التلسكوب. وفي فلسطين أكد مرصد المسجد الأقصى تعذر رؤية هلال شهر رمضان.
أما من الناحية العلمية، فقد غرب القمر مساء أمس الجمعة بعد غروب الشمس بفترة تتراوح ما بين 11 دقيقة في إندونيسيا إلى 16 دقيقة في عمّان إلى 22 دقيقة في المغرب، وعند غروب الشمس في غرب العالم الإسلامي كان بعد القمر عن الشمس 5 درجات، وهذه قيم تعجز أكبر التلسكوبات عن رؤية الهلال عندها! فإن أقل بعد بين القمر والشمس أمكنت رؤيته حتى باستخدام التلسكوب كان على بعد 6 درجات، وأقل مكث كان 20 دقيقة، ولا يكفي أن تزيد قيم الهلال عن هذه الأرقام حتى تمكن رؤيته، فإن كانت إحدى هذه القيم صغيرة (البعد عن الشمس مثلا) لزم أن تكون القيم الأخرى (المكث مثلا) أكبر، لتعوض إحداهما الأخرى، ولكن قيم الهلال مساء أمس الجمعة كانت دون الحدود الدنيا لجميع المتغيرات.
وبالنسبة لنا في الأردن، فإنّ دائرة الإفتاء لديها لجنة للأهلّة تضمّ مختصين في علوم الفلك والشرع، وهم ملتزمون بقرارات المجمع الفقهية التي تنصّ على ردّ الشهادة برؤية الهلال إذا تعارض ذلك مع معطيات علم الفلك، ولو التزمت الدول بقرار المجمع الفقهي الإسلامي الدولي لما حصل هذا الخلاف اليوم، ولصامت معظم الدول معا.
وتحقيقاً لمنهجية التحرّي المنضبطة فقد نظّمت الجمعية الفلكية الأردنية من خلال اللجان الرصدية وبالتعاون مع مجلس الإفتاء خمس محطّات لتحرّي الهلال مزوّدة بتلسكوبات محوسبة بأقطار 8 و10 و14 و20 بوصة توزّعت على عمّان وإربد ومادبا وجرش ووادي رم والبترا، وقد أكّد الراصدون عدم رؤية الهلال ولا حتى بالتصوير الرقمي، وتمّ تزويد مجلس الإفتاء مباشرة بنتائج هذه الأرصاد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الجمعية الفلكية الأردنية عضو في المشروع الإسلامي لرصد الأهلة الذي يشرف عليه مركز الفلك الدولي، وهذا المشروع أسس عام 1998 ويهدف إلى تكوين شبكة من المهتمين يرصدون الهلال عند بداية كل شهر هجري ويرسلون نتائجهم إلى المركز ليقوم بتدقيقها ثم نشرها على موقع المركز على شبكة الإنترنت في نفس يوم التحري، ويضم المشروع حاليا أكثر من 1500 عضو من علماء ومهتمين برصد الأهلّة وحساب التقاويم، ومن الدول التي يتواجد فيها أعضاء يرصدون الهلال ويرسلون نتائجهم بشكل دوري إلى المركز: أستراليا وإندونيسيا وماليزيا وبروناي ونيبال وسريلانكا وبنغلادش وإيران وعمان والإمارات والبحرين والسعودية والأردن وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وغانا ونيجيريا وتنزانيا وغامبيا وتركيا والبوسنة والهرسك والمجر وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة وأمريكا.
وبعد الاطلاع على نتائج تحري الهلال للراصدين المتواجدين في مختلف بقاع العالم من شرقه في أستراليا إلى غربه في أمريكا، نجد أنه لم يتمكن أحد من رؤية الهلال مساء يوم أمس الجمعة لا بالعين المجردة ولا باستخدام التلسكوب، مما يؤكد اتفاق النتائج العلمية مع الحسابات العلمية المسبقة. ويمكن للمهتمين زيارة صفحة رمضان على العنوان التالي (https://www.astronomycenter.net/icop/ram43.html ).
وأما بالنسبة للدول القليلة جدا التي أعلنت فعلا رؤية الهلال مساء يوم الجمعة، فينبغي التذكير بأنّ مثل هذه الادعاءات برؤية الهلال ليست أمرا مستجدا، فقد أجرى العديد من الباحثين دراسات علمية نشرت في مؤتمرات علمية لدراسة الأخطاء الحاصلة في شهادات رؤية الهلال، فوجد الباحثون ومنهم نضال قسوم للجزائر ومحمد عودة للأردن وحسن بيلاني لسوريا وعدنان قاضي للسعودية، وجدوا جميعهم بأن نسبة تقدم شهود برؤية هلال في الظروف التي لا يمكن فيها رؤية الهلال تفوق الـ 90%! بل أكدوا أنه وخلال الخمسين سنة الماضية من وقت نشر دراساتهم، أكدوا تقدم شهود برؤية الهلال في حوالي 60% من الحالات حين لم يكن القمر موجودا في السماء أصلا! بل كان يغيب قبل الشمس.
ويلزم التنبيه إلى أن الدول التي ستبدأ رمضان يوم الأحد، سيلاحظ الناس كبر حجم الهلال بعد غروب شمس يوم السبت، وسيبدو كبيرا جدا بعد غروب شمس اليوم الأول من رمضان الإثنين 03 إبريل، مما قد يشكك البعض بصحة بداية الشهر، وهذا غير صحيح لعدة أسباب، ومنها.
أولا: من القواعد المعلومة بأنه إذا أتم الشهر ثلاثين يوما، فلا بد أن يكون الهلال كبيرا بعد غروب شمس اليوم الثلاثين، لأن القمر في اليوم السابق يكون على الأغلب قريباً من حدود الرؤية، فلو زاد عمره بضعة ساعات لأمكنت رؤيته، وفي اليوم التالي سيزداد عمر القمر 24 ساعة وسيزداد مكثه 50 دقيقة إضافية بعد غروب الشمس، فمن الطبيعي بل ومن اللازم أن يمكث الهلال كثيرا ويبدو كبيرا.
ثانيا: في التعريف الشرعي لليوم فإن الليل يسبق النهار، فبعد غروب شمس اليوم الأول من الشهر الهجري مثلا فإن الهلال الذي نراه هو لليلة القادمة أي أنه هلال الليلة الثانية، فلزم أن يكون حجمه كبيرا يتناسب مع اليوم الثاني من أيام الشهر الهجري.
ثالثا: إن العبرة بصحة بداية الشهر ليست بحجم الهلال، فحجم الهلال ليس معيارا دقيقا يمكن الاعتماد عليه دائما لتحديد صحة بداية الشهر، خاصة عندما تكون قيم الهلال يوم التاسع والعشرين قريبة من حدود الرؤية. بل المعول عليه هو هل تمت رؤية الهلال يوم التاسع والعشرين أم لم تتم.
بناء على ما تقدم، فإننا نوجه تحية كبيرة لسماحة مفتي المملكة فضيلة الشيخ عبد الكريم الخصاونة ولسائر أعضاء مجلس الإفتاء ولكل من ساهم باتخاذ هذا القرار الحكيم الذي فيه حرص واحتياط لعبادات المسلمين، وفيه احترام للعلم وللعلماء بالمواءمة بين التحرّي العملي ومعطيات العلم اليقينية.