
من قبل أن يولد المرء وهو في صراع دائم من أجل البقاء وإن كانت معظم تلك الصراعات في الحقيقة غير مُجدية ، فقد تكون سبباً في منع رزقٍ ، أو زيادة ضيق ،وقد يصل ضُرُها فيكون للأجل انقضاء وبالرغم من ذلك ، يستمر في صراعاته ، ولا يثنيه عن خوضها فشل أو خوف ، أملاً منه في أن يتغلب عليها ، أو على بعضها ، وكأن هذا كافياً له ليشعر أنه لم يستسلم ، وأنه قام بما عليه.
وها هو في أول صراع له نراه يخوض صراعاً قوياً وحازماً وهو في قمة ضعفه ، والجميع بلا استثناء خاض هذا النزاع ، وكان إعلاناً لبدء باقي الصراعات ، فمن يخرج من صراعه الأول منتصراً ، سيكون انتصاره هذا بداية حياته ، وعلامة نجاته ، وساعة ميلاده.
والقِلَّة الذين يفشلون به ، يلقوا حتفهم ، وتنتهي صراعاتهم قبل أن تبدأ . وصراعه الأول هذا ، هو صراعه مع الماء المحيط به في رحم أمه ، فتتلاطم به أمواجه ، وتحيطه وتحمله ، فقد يطفو وتنقذه ، وقد يغرق بها فتهلكه ، ونراه يصارعها بلا قوة ، ويقاومها بلا خبرة ، فيتقلب بها يمنة ويسرة ، ويعتمد فيها على البقاء على مشيمة وحبل سُرَّة ، حتى يتغلب عليها ، فيغادرها ، ويجعل الله بعد عسر يسرا.
ونراه يتصارع أيضاً مع الانقباضات التي تعتصره بين فترة و أخرى ، وتتردد عليه حتى يضيق بها ذرعاً ، ولا يقوى على تحملها ، ويختار الهروب منها ، وهي بدورها تقذف به خارج رحم أمه ، وهو يطيعها ، ويعينها ، فقد ضاق ذرعاً بها ، فيغادرها ببراءته ، ويكون هروبه هذا بداية لحياته ، إذ تُعلَن به ولادته.
ولكن … هل ستتوقف صراعاته وتنتهي ؟؟؟ سيبدأ الآن صراعاً جديداً مع الأشياء من حوله ، محاولاً اكتشافها فإما أن يدركها ، ويستغلها ، فتنفعه ، أو أنها تخفى عليه ، فتقوى ، حتى يعجز عنها ، ودون إدراك منه ، وبلا حراك قد تضرّه يكبر هذا الصغير شيئاً فشيئاً ، وتكبر معه صراعاته ، والتي يجد نفسه فيها ، وهو مجبراً على خوضها راغماً وليس راغباً ، وقد يكون باحثاً عنها أحياناً ، وطالباً لها ، وإن كان بها جاهلاً فها هو يصارع الظروف التي تصادفه ، فتحيطه ، وتحبطه ، فيجد نفسه مقيدَّاً بها ، فيصارعها وإن كان في معظم الأحيان لا يدرك العواقب ، ولكنه مجبر عليها ، ولا تخلو صراعاته تلك من حاجتها لوجود مراقب.
ومن صراع إلى صراع ، فبعضها تغلبه ، وبعضها يغلبها وكلها تعلّمه ، وتقويه ، وللحياة تُهيؤه ، وهو يختبر نفسه بها ومع الأيام يجد نفسه مطالباً بخوض صراعات من مستويات أعلى ، فهو الآن سيبدأ صراعاته مع الأشخاص الذين معه وحوله صراعات مواقف ، وصراعات أحداث ، وصراعات أفكار ، وصراعات عادات ، وصراعات حاجات ، وصراعات رغبات ، وصراعات قدرات ، وصراعات تحديات ، والكثير الكثير منها وفيها جميعها يكون حاله مع نِدِّه ، إما أن يخالفه أو أن يتفق معه وإما أن يظل ضدَّه ، أو أن يطيعه ويسمعه.
فقد ينتصر في معظمها أو بعضها ، حسب طريقته ، ومنطقه ، وتمكنه من خصمه فيقنعه وسيظل كذلك إلى تنتهي صراعاته ، عندما يصل لآخر صراع له ، وهو صراعه مع الموت فهو يشعر أنه يزوره مع كل مرض ، أو ألم يحل به ، حتى يأتيه فعلاً ، ولكنه ليس زائراً ، وإنما جاء ليأخذه معه وهو الصراع الوحيد الذي نهزم فيه جميعاً ، فالموت حق ، وكلنا إن جاءنا نمشي معه.
وبالرغم من كل تلك الصراعات ، وكثرتها ، وتعددها ، وتتابعها ، وتباينها ، واستمراريتها ، وخفَّتها ، وحدَّتها ، إلا أن هناك صراع يخوضه الإنسان مع نفسه ، وهو من أهم تلك الصراعات ، وأشدُّها ضراوة ، وأكثرها فتكا يقف فيها المرء أمام مرآته ، ويرى فيها انعكاسه ، وصورة حياته ، يرى حقيقته ، وليس كما تصورها له تطلعاته فيتعمق فيها بداخله وليس بظاهره ، لينظر في أحلامه ورغباته ، وليس في طوله وعرضه وعضلاته ، فيخوض في كل أمر منها صراعاً هو محوره ، وهو أيضاً كل اتجاهاته.
يرى طريقاَ هو طرفيه ، وبه تلتقي جميع حيثياته ، وإحداثياته فيبدأ هنا صراعاته ، ليحزم أمره ، ويضع قراراته ، ويحدد اختياراته . صراعه بين عقله وقلبه وصراعه بين رغبته وقدرته وصراعاً بين حاجاته واستعداداته وصراعاً بين التزاماته وميزانيته وميزانه أي تلك الأطراف أجدر بأن يطيعه ، وأيها أقدر على أن يجذبه لِصَوبِه.
وهل سيكون قادراً في كل صراع على تحمُّل عقباته ، والرضى باختياراته ، والوصول إلى بر السلامة في نهاياته ، ويبحر إلى شاطئ الأمان في أصعب رحلاته فهل تراه سيفعل ؟؟؟ ؟ لأنه إن كان قادراً على ذلك ؛ فهو المنتصر بلا ريب وليس التنازل في بعض الأحيان عيبا فالمرء مهما انتصر ، إلا أن هناك أموراً سيظل يجهلها ، لأنها ستظل في عالم الغيب وهو بقوته ورغبته ، ورفضه لاستسلامه سيجد لانتصاره أمام نفسه ألف درب ودرب وما عليه إلا أن يخوض صراعه ، ويبذل جهده ، ومن ثم يرضى بقدره خيره وشره فكلنا في حياته إما صارع أو مصروع وإما تابع أو متبوع وإما أن يثبت ويتمسك بجذور أصيلة أو أن يضعف ، فَيَخِفَّ ، ويَجِّفَّ ، ويسقط ، كأي فرع من الفروع.
للتواصل مع الكاتبة @bentalnoor2005