
“من جذاذ الأمل العتيق”
العامُ الدراسي الأخير في الثانوية العامة ، وبِيَدِ الخرّيجين تلك الوثائق المُسفِرة عن كمّ الجُهد المبذول لكلٍّ منهم ، فرسّمَت بأرقامٍ ذلك الكدّ ليبلغوا تلك الدرجة الأخيرة التي باتت مبتغى كلّ طالبٍ مُجدّ “الجامعة”.
فانفضُّوا وباتوا طوائف ، منهم من اتّخذ الرقود في البيت مآلهُ ، ومنهم من قصد جامعةً وصَبا للرُّقي بها ، ومن بدأ ببناء حياته مع الشريك ومن بين تلك الأحزاب انبثق وجهٌ لا ينتمي لأيٍّ منها ، تأمّل وثيقة درجاتهِ لدقائق ، درجاتٌ ممتازة تنهد بعمقٍ ، أخذ فيلمُ العائلة يتجلى لهُ ، من عرقلة أحلامه التي هرِمَت وباتت تسير على عُكّازٍ مهدود ، فعاد للبيت حاملًا شهادة بلا أمنياتٍ ، فرُكِنَت إلى درجٍ مغلقٍ به كم من شهاداتٍ عديمة الجدوى.
أيامٌ قلائل من طقسٍ سيئ مُلبّد بغيوم التشاؤم ، استرجع بها “أُسامة” ماضيه اللامع ، من أهدافٍ أصابها بالرغمِ من الضّباب المُمَوِّه لدربه ، فاسترجع أيامًا كان بها طفلًا مُقيَّدًا بظروفه ، حُرًّا بطموحاته ، وشغفه الشديد الذي أدّى لتفوّقهِ على أقرانه في الكثير من المجالات ، وعلو شأنه.
فأضفى ذلك حطبًا لجذوةِ طموحه التي آلت للخمود ، فاندلعت وتأجّجت ، فقضى عامينِ من عُمره عاملًا في إحالةِ حلمهِ واقعًا بتخطيطٍ عميقٍ ، وتغيير جذريٍّ في شخصيتهِ ليتلاءم مع حجم حلمه ، وتعلّمهِ لسانَ البلد التي سيأوي إليها ، ومن وراء الحجاب جهوده المضنية في إقناع المعترضين على قراره ، فعاش سنتين في كَبَدِ ذلك.
هلّ اليوم الموعود بعد حقبة انتظارٍ طويلةٍ بغتةً ، الذي أضحت به شعلةُ طموح “أسامة” وقودَ المركبة التي ستنتشله من كَنَف عائلته ، فتُقلِع به بعيدًا حيث متنفّس أمنيته هناك ، ولكن عارضتهُ محطة السفر لبلادهِ أولًا لينهي الإجراءات اللازمة قبل الرحيل للبلدة المقصودة ، فخضع لذلك ورحل إليها مُغالبًا دمعته المترأرئة في عينيه لحظات وداع الأهل العائمين بمُحيط مُقلتيهم ، وألسنتهم تلهج له بالدعوات.
كان المُرتجى إنهاء إجراءاته سريعًا إذ شارف العام الدراسي في الدولة التالية انتهاءً ، ولكن شاء الله أن ينقضي الشهر الأول دون أن يجدّ جديدٌ في ذلك ، فالشهر الثاني ، فالثالث … حتى مضى الشهر العاشر ، والذي اكتنز أخبارًا سيئة ، تضمنت استحالة إنهاء إجراءاته ، وكان ذلك القول الفصل.
فآب لمدينته التي وُلد بها ، حيث الشوق بأفئدة الأهل قد نال ، وهم بين فرحٍ لعودتهِ ، وحزنٍ مضمور بيقين أن الخيرة فيما اختاره الله ، وسرعان ما تبادلوا السؤال بسعادة ، واستقلّوا سيارتهم عائدين.
ابتُدِئَ مشوار العودة بصمت لم ينفذهُ سوى مرح الأطفال ، في ترقُّب لبُزوغ انكسار نفس “أُسامة” ، ولكنه أجلى وجهًا بشوشًا منثورة عليه أمارات الرضا ، ثم قال : لقد نجحتُ يا أحبتي ..! رماهُ الجميع بنظرة متسائلة ، وأيّ نجاحٍ ذاك ..؟
فقال : نعم بما لم أعهدهُ من نفسي ..! أولًا نجحتُ في هدّ شخصي القديم ، لبناء نسخة جديدة مني على أساسات أقوى ، فترتب عليه قناعة أن لا قيد للأمنيات ، فنحن من نغذيها بحجم إرادتنا ، فإما أن نَذَرْها ضعيفةً أسيرةً ، أو تنينًا يحلقُ بشراسة دون حدودٍ كاسرًا أصفاده ..!
نجحتُ في توديعكم يا جُلّ أمانِيْ لألتحق بسرب أمنياتي دون أن تخيم عليّ عواطفي وتعيقني عن السفر ..! فاستأنفت أخته الحديث : ونحنُ خلّينا سبيلك طليقًا راكضًا بشغف نحو أمنياتك موشحين ذِكراكَ بدعواتنا ، وإن اقتضى ذلك دموعًا وشوقًا لك ..!
فالاستمتاع بلألأة النجوم عن قرب يقتضي اعتزال سلام هذه الأرض أباد صخبُ ضحكاتهمُ السكونَ الذي همّ بهم ، سعداء بتكوُّن مفهوم جديد عن النجاح في نفوسهم ، و”أُسامة” يرتق من جذاذ أمله العتيق أمنيةً جديدة.
للتواصل مع الكاتبة orjowanalbaloshi55@gmail.com