
في مثل هذا اليوم قبل خمسة عشر عاماً غاب عن دنيانا قامة فكرية وأدبية وسياسية فريدة، رحل الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي – رحمه الله – تاركاً خلفه إرثاً يفيض بالحكمة والعطاء كان شاعراً يلامس القلوب وأديباً يسحر العقول ورجل دولة جمع بين الحزم والإنسانية وبين الفكر والعمل غاب الجسد لكن كلماته ما زالت حيّة وأثره باقٍ في ذاكرة الوطن والأمة يروي للأجيال حكاية رجل صنع بصمته في كل ميدان دخله !!
يُعد الدكتور غازي القصيبي (1940-2010) إحدى الشخصيات الفريدة في العالم العربي فقد جمع بين الأدب والشعر والفكر والإدارة والدبلوماسية في مسيرة استثنائية حفلت بالعطاء والتألق كان نموذجاً للإنسان المثقف الذي يتقن فنون الإدارة بقدر إتقانه لفنون الكلمة وظل اسمه محفوراً في ذاكرة الأدب والسياسة والثقافة العربية.
درس الدكتور غازي القصيبي في البحرين ثم درس الحقوق في جامعة القاهرة ثم الماجستير من أمريكا والدكتوراة في لندن .. ثم عاد لوطنه استاذاً في جامعة الملك سعود ثم اختاره الملك فهد وزيراً للكهرباء في عام 75 وكان قريباً للملك فهد رحمه الله وكان غازي نجماً اعلامياً كبيراً وكنزاً اعلامياً في الصحف وغيرها مما أثار له حاسدون و كثر الكلام والنميمة والكيدية لغازي فأحس بتغيّر الملك عليه وفي عام 84 كتب قصيدة الرسالة الأخيرة من المتنبي إلى سيف الدولة وكانت قصيدة رمزية من غازي الى الملك وكلها عتاب وحب فنشرتها جريدة الجزيرة السعودية وعلى اثر هذه القصيدة تم إعفاء غازي القصيبي من الوزارة و فصل رئيس تحرير جريدة الجزيرة الاستاذ خالد المالك وبعدها بشهر اتصل عليه الملك فهد وعيّنه سفيراً في البحرين الى عام 92 وبعدها نقل سفيراً في بريطانيا العظمى وأيضاً كتب قصيدة الشهداء ويمجد فيها الفتاة الفلسطينية آيات الأخرس التي عملت عملية استشهادية بوسط اسرائيل.
واحتج اللوبي الصهيوني في لندن كيف ان غازي القصيبي يشجع على الإرهاب وعاد القصيبي للملكة بسبب هذه القصيدة لم يكن الدكتور غازي القصيبي مجرد مسؤول تقليدي أو شاعر يكتب لمجاملة السلطة بل كان رجلاً صريحاً جريئاً في مواقفه يعبر عن آرائه بشفافية مهما كان الثمن ومن أبرز محطات حياته التي أثارت جدلاً واسعاً قصيدتان كانتا سبباً في إنهاء مسيرته الوزارية والدبلوماسية : وبعد 15 عاماً أعتذر غازي القصيبي بهذه الأبيات : ودولة الظلم لا تبقى وان بطشت ودولة العدل بالمعروف تزدهر !!وجئت أحمل أبياتي على خجل ما جئت أمدح لكن جئت اعتذر !! غازي القصيبي مواقف لا تُنسى : حين اجتاحت جحافل الغزو العراقي أرض الكويت الطاهرة، لم يكن الميدان فقط في جبهات القتال بل كان هناك ميدان آخر لا يقل ضراوة : ميدان الكلمة وفي هذا الميدان برز الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي – رحمه الله – فارساً مغواراً يقاتل بالقلم كما يقاتل الجندي بالبندقية !!
وقف غازي القصيبي موقفاً بطولياً لا يعرف المواربة وكتب بجرأة عنيفة ضد كل من ساند العدوان أو برره !! حتى بلغ صداه أرجاء العالم العربي كانت مقالاته في زاويته الشهيرة “في عين العاصفة” بجريدة الشرق الأوسط جبهةً أخرى من جبهات الدفاع عن الحق يواجه بها الدعاية المضللة ويفضح بها مواقف الخيانة والتخاذل !!
بلغت جرأته حداً جعل الأمير عبدالله بن عبدالعزيز – ولي العهد آنذاك – يرسل له سيارة مصفحة إلى البحرين خشية أن تطاله يد الغدر والاغتيال ومع ذلك واصل غازي معركته بالكلمة .. يكتب الشعر والنثر والحجة القاطعة ويتفوق على الجميع في سلاح البيان !! لقد أثبت أن الكلمة الحرة قد تكون في لحظات التاريخ الحاسمة أقوى من الرصاص وأن الموقف الشريف لا يهاب التهديد بل يزداد رسوخاً حين يكون الوطن في محنة وهكذا خلد اسمه كأحد جنود الكويت الأوفياء وإن حمل جواز سفر سعودياً فقد حمل في قلبه وفاءً لا تحده حدود.
هكذا كان غازي القصيبي لا يكتب لمجرد الكتابة ولا يتحدث من أجل إرضاء أحد بل كان صاحب كلمة وموقف دفع ثمن جرأته في أكثر من مناسبة لكنه بقي رغم ذلك رمزاً للأدب الحر والموقف السياسي المستقل والصوت العربي الأصيل رحل غازي القصيبي لكن كلماته لا تزال شاهدة على مواقف رجل لم يعرف الصمت بل ظل حتى آخر أيامه يعبّر عن قناعاته دون خوف أو تردد.
للتواصل مع الكاتب 96550538538+