
قال فيكتور هيجو ، احد أدباء الثورة الفرنسية : ” تستطيع أن تواجه الجيوش ولا تستطيع ان تواجه الأفكار ” الجيوش قوى ظاهرة يمكن الاستعداد لها و مقاومتها بالمتاح من الوسائل و مهما كانت قوة الخصم فإنه لن يسلم من الاذى و الخسائر في الارواح و العتاد أما نتائجها فليست مضمونة و النصر فيها نسبي . أما حرب الافكار فهي الاخطر لأنها تأتي متخفية بثوب صورة او لوحة فنية او عمل فني مسموع و مرأي أو فكرة تدس في نسيج الثقافة و تؤثر على السلوكيات . تفكك النسق الفكري و الأخلاقي للمجتمع و تدفع به للتطاحن الداخلي و الاندفاع نحو الانتحار طواعية فيصبح لقمة سائغة للعدو يحركه كيفما شاء ويتحكم بمصيره دون ان يكلف نفسه تجييش الجيوش . وهذه ما تسمى بالقوى الناعمة أو الحرب النظيفة كما يسميها البعض او القوة الذكية حسب مفهومها المتطور لكن بالنظر الى واقعها يمكن ان نسميها بالدهاء السياسي.
يقول جوزيف ناي مؤلف كتاب “القوة الناعمة ” ويعتبر أول من استعمل المصطلح ، في دراسة العلاقات الدولية أن القوة الناعمة هي “حث الآخرين على الرغبة في النتائج التي تريدها”، وإن كان جوزيف أول من طبع المصطلح إلا أن سياسة القوة الناعمة كانت موجودة منذ عشرينيات القرن الماضي و اول من تبناها هي السيدة اكلير وكانت موظفة سامية في الحكومة الفيدرالية الامريكية وذلك حين طلبت من رجال الاعمال الامريكيين و اصحاب و كالات الاشهار ربط مصالحهم و بضائعهم بالقيم و المؤسسات الامريكية لا حداث تناغم و ترابط بين المصالح التجارية و الاقتصادية من جهة و بين المصالح القومية للبلاد ، فالظرفية كانت تعرف تدفق طالبي العمل و الآملين في تكوين ثروات من جنسيات مختلفة على البلاد و المصلحة تقتضي دمجهم و احتواءهم لخلق مجتمع متجانس تسيطر عليه المفاهيم و السلوكيات و العادات و نمط الحياة الامريكية . ومن اهم الوسائل التي استعملت في اطار القوة الناعمة لإخضاع الشعوب هي السينما و الإعلانات.
لا نها الاقرب لوجدان و اهتمامات الجماهير بمختلف طبقاتها و مستوياتها الثقافية . وهكذا تمكنت امريكا من خلق راي عام يتبنى معايير اخلاقية و مفاهيم و سلوكيات خاصة ، لم تعد تقتصر على الداخل الامريكي بل امتدت لخارج البلاد عبر انتاجها السينمائي على الخصوص الذي قفز للواجهة العالمية بتأسيس ستوديوهات هوليود السينمائية و تصوير اول فيلم بها سنة 1908م، و التي اعطت دفعة قوية لأمريكا في حروبها الناعمة . فتدفقت على العالم افلاما مبهرة تحمل في طياتها عادات و مفاهيم و ثقافات انعكست على سلوكيات الاجيال و اربكت حياة الشعوب و نظرا لأهمية السينما و قوة تأثيرها على وعي الشعوب و توجيه الراي العام و السيطرة على مصير الشعوب لم يعد هناك بد من توقيع اتفاقية تعاون غير معلنة بين وزارة الدفاع الامريكية ” البنتاجون ” و بين هوليود السينمائية كشفها بعض الكتاب في معرض حديثهم عن تدخل المخابرات الامريكية في صناعة السينما و توجيهها . ففي سنة 2013 صدر كتاب ” السي اي اي تذهب الى هوليود ” و في 2016 صدر كتاب “في ظلال السرية ” و كتاب ” الامن القومي السينمائي” و كل هذه الكتابات فضحت تدخل المخابرات الامريكية في صناعة السينما و توجيهها . من هنا تظهر خطورة الانتاج السينمائي و الفني عامة على الامن القومي لأي بلد . وقد اتحفتنا السينما الأمريكية بعروض مبهرة اسرت مشاعرنا و اهتماماتنا و اثرت على سلوكياتنا من افلام اثارة و حركية و مغامرات محملة بمفاهيم اغلبها تصطدم مع اخلاقيات و ثقافة مجتمعاتنا وصولا لعروض الصدمة و الترويع التي تضمنت مشاهد القتل الهليودي المروع التي قدمتها عناصر داعش.
وبين الصدمة و الترويع و الترغيب و التحبيب تستمر شركات الانتاج السينمائي الامريكية في متابعة معركتها مع الشعوب خاصة العربية و الاسلامية . و ها نحن نعيش احد فصول المعركة الناعمة مع فيلم “أصحاب و لا أعز ” الذي انتجته مؤخرا شركة نيتفليكس الامريكية وهذه المرة لم يعتمد المخرج اسلوب المشاهد المثيرة أو التي يمكن أن تصدم بعض المشاهدين بل كان اكثر تركيزا و تحايلا على المتلقي بحيث دارت كل مشاهد الفيلم في حيز ضيق وهو مائدة الطعام في جلسة حميمية بين الاصدقاء ، ثم بدأت لعبة الهواتف التي كشفت اسرار كل واحد منهم … الاسرار التي كانت عبارة عن حالات لا اخلاقية يعيشها كل واحد منهم و هي تمثل ظواهر غريبة و غير مقبولة بثقافتنا العربية و لا عقيدتنا الاسلامية ، مثل قضية المثلية و الزنى و الخيانات الزوجية ، و الحرية المطلقة للأبناء و رفع اليد عنهم حتى لو تخطوا حدود الالتزامات الدينية وثقافة المجتمع الذي يعيشون فيه.
كل هذه القضايا سبق وطرحت بعدة اشكال و اسست لها منظمات مدافعة عن حقوق اصحاب هذه الانحرافات الفكرية و السلوكية إلا أنها لم تحصل على النتائج المرجوة لان الهدف ليس هو الدفاع عن حقوق اقليات في المجتمع و انما اختراق المجتمعات بمفاهيم و سلوكيات غريبة عن ثقافتهم تؤثر على نسيج المجتمع و تثير الصراعات و المعارك الداخلية من اجل اضعافه وتفكيكه و تطويعه للسياسات التي اعدت له.
وما يصدق عن السينما و الفن يصدق على الاعلانات في الترويج للسلع كما الافكار و السياسات … يقول جوزيف كوبلز وهو احد اقطاب النظام النازي ” ليس هناك أمر أسهل من قيادة الشعب لحيث نريد ، يكفيني أن أنظم حملة دعائية تبهره و سوف يسقط في الفخ !!! “
السينما إذن و الاعلانات هي أكثر ما يبهر المتلقي و يؤثر على وعيه و سلوكياته . انها قوة اكراه معنوية تداعب رغبات الناس و امانيهم ، احلامهم بالثروة و السعادة … اما النجم فهو خط الدفاع الاول في المعركة و رأس الحربة التي تخترق وجدان المتلقي لقربه من وجدان الجماهير ، كلما أجاد في تقمص الشخصية كلما صار مقنعا و ملهما … لذلك كانت الثورة على الفنانة منى زكي اقوى من الثورة على الفيلم نفسه . لهذا على كل فنان أو نجم أن يعي الدور الذي يلعبه بالمجتمع بل بالأمن القومي لوطنه ، فالأوطان لا تسقط بالضربات النارية بل من الامراض الاجتماعية التي تتسرب لكيانها و تجهز على مقوماتها الاخلاقية و الثقافية التي تشكل هويتها و ملامحها الخاصة بين الدول.
انما الأمم الاخلاق ما بقيت – فإن هم ذهبتهم أخلاقهم ذهبوا
للتواصل مع الكاتبة argana_63@live.fr