القى فضيلة الشيخ الدكتور احمد بن رفاع المطيري محاضرة في مقر الدوريات الامنية بجازان ضمن البرامج التعريفية للرجال الضبط الجنائي منوها ابتداء إلى أن المرحلة الأهم من مراحل التحقيق والكشف عن الجرائم هي مرحلة الاستدلال، وهي المرحلة التي تستنبط منها المحكمة الدليل الجنائي، فإذا كانت الإجراءات في هذه المرحلة مبنية على أسس سليمة، موافقة للنظام، فإن الدليل المستمد منها يكون قوياً، ومن ثمّ من الممكن أن تقوم التهمة على المتهم، ويطمئن القاضي في حكمه عليه.
وبين فضيلة الدكتور احمد ان التساهل في هذه المرحلة من رجال الضبط الجنائي فإنه قد يؤدي إلى ضياع حق المجني عليه، بل وحق المجتمع بأسره ؛ فتعمّ الفوضى في البلاد، ويحلّ الخوف والظلم مكان الأمن والعدل.
فلهذه المرحلة أهمية بالغة في استجلاء الحقيقة وإيضاحها، فسلطة التحقيق تستند على ما يتم جمعه فيها من بيانات، وإلى نوعية تلك الأدلة والقرائن التي تم جمعها، وإلى المعلومات التي تم الحصول عليها ؛ في تحريك الدعوى الجزائية، أو حفظ الأوراق وإصدار أمرٍ بأنه لا وجه لإقامة الدعوى.
وذكر فضيلة الدكتور ان جمع الاستدلالات في هذه المرحلة هي المهمة الأساسية لرجل الضبط الجنائي في المملكة العربية السعودية ؛ إذ جاء نظام الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م / 39وبتاريخ 1422/7/28ه بتحديد عمل رجال الضبط الجنائي بمرحلة الاستدلال فقط، والذي أصبح اختصاصاً أصيلاً لرجال الضبط الجنائي ؛ لا يجوز لهم الخروج عنه إلا في حالة التلبس بالجريمة، أو الندب من سلطة التحقيق (النيابة العامة ) فلهم مباشرة بعض إجراءات التحقيق استثناءً في تلك المرحلتين.
وواضح الدكتور المطيري خضوع رجال الضبط الجنائي، والجهة المشرفةِ عليهم ؛ فرجال الضبط الجنائي ورد تعريفهم في المادة الرابعة والعشرين من نظام الإجراءات الجزائية وهم: الأشخاص الذين يقومون بالبحث عن مرتكبي الجرائم وضبطهم وجمع المعلومات والأدلة اللازمة للتحقيق وتوجيه الاتهام.
والذي نلاحظه من هذا التعريف أن دورهم الإجرائي يبدأ بعد وقوع الجريمة، سواء كانت هذه الجريمة تامة أو وقفت عند حد الشروع المعاقب عليه جنائياً، وهم يختلفون عن رجال الضبط الإداري الذين يمارسون دورهم الإجرائي قبل وقوع الجريمة.
ولذا فإن مهمة رجل الضبط الجنائي تبدأ بعد عجز رجل الضبط الإداري عن الحيلولة دون وقوع الجريمة، وليس في ذلك استنقاص لجهودهم، فالجريمة موجودة بوجود الخلق، وهي ظاهرة اجتماعية تتطور بتطور المجتمعات.
فإجراءات الضبط الجنائي هي إجراءات جمع الاستدلال التي تعقب وقوع جريمة ما، وتسبق مرحلة التحقيق فيها، ولا تُتخذ إلا بصدد واقعة ينطبق عليها وصف الجريمة الجنائية ؛ فلا تُتخذ إلا بصدد فعل محظورٍ ومعاقب عليه شرعاً أو نظاماً، فكل واقعةٍ لا ينطبق عليها وصف الجريمة لا تباشر حيالها إجراءات الضبط الجنائي ولو ترتب عليها ضرر، فالشخص الذي يخالط الناس وهو مريض بمرضٍ مُعد لا ينطبق على فعله وصف الجريمة، حتى لو تسبب في إصابة غيره بالمرض، وإنما يُتخذ بحقه إجراءات الضبط الإداري التي تهدف إلى وقاية الناس من هذا المرض.
كما إن إجراءات الضبط الجنائي لا يتولد عنها أدلة بالمعنى الفني، ولا تعدو تلك المعلومات التي يتم الحصول عليها في هذه المرحلة إلا أن تكون مجرد دلائل وأمارات يصح الاستناد عليها في مرحلتي التحقيق والمحاكمة، ولكنها لا ترقى لأن تكون أدلة بالمعنى الفني، وذلك بسبب افتقادها إلى الضمانات اللازمة لحماية الحرية الشخصية وحق الدفاع، ولهذا سُميت بمرحلة الاستدلال، وهي إجراءات تحضيرية أو تمهيدية للدعوى الجنائية، بل هي سابقة عليها، الهدف منها: جمع المعلومات والأدلة اللازمة للتحقيق والاتهام ولا يترتب على اتخاذ أي إجراء منها تحريك الدعوى الجزائية.
ولقد حدد نظام الإجراءات الجزائية رجال الضبط الجنائي حسب المهام الموكلة إليهم، وأوردهم على سبيل الحصر في المادة السادسة والعشرين من النظام فلا يجوز إدخال غيرهم بدون نص، ولا يجوز القياس أو حتى مجرد التقريب نظراً لخطورة المهام المسندة إليهم إجرائياً.
كما حدد النظام في المادة الخامسة والعشرين منه علاقة رجال الضبط الجنائي – فيما يتعلق بوظائفهم – النيابة العامة ؛ فهم يخضعون فيما يتعلق بوظائفهم في الضبط الجنائي لإشراف هيئة التحقيق والادعاء العام والتي من حقها أن تطلب من رؤسائهم الإداريين النظر في أمر كل من تقع منه مخالفة لواجباته أو تقصير في عمله، ولها أيضاً أن ترفع الدعوى التأديبية عليه، دون إخلالٍ بالدعوى الجزائية.
كما حددت هذا المادة علاقتهم برؤسائهم الإداريين فيما يتعلق بمسؤوليتهم عن كل ما يقع منهم من مخالفات أو تقصير، فهم يخضعون من حيث المسؤولية التأديبية لجهة عملهم، أما إذا ترتب على مخالفاتهم مسؤولية جزائية فإن المختص بها هي النيابة العامة.
وافاد فضيلة الدكتور أن قيام النيابة بأعمالها في مجال التحقيق سوف يمكّن رجال الضبط الجنائي بوجه عام، من التفرغ للقيام بأعمال الاستدلال وجمع المعلومات والبيانات والإيضاحات عن الجريمة، في حين تتولى النيابة العامة مباشرة إجراءات التحقيق التي تتجاوز هذا إلى جمع الأدلة ذاتها، وهذا هو الحاصل اليوم ؛ إذ نرى على أرض الواقع أن مراكز الشرطة وإدارات مكافحة المخدرات وغيرها من أجهزة الضبط الجنائي قد تفرغت للقيام بأعمال الاستدلال، وإجراء التحريات، وتلقي البلاغات وجمع المعلومات والبيانات، بعكس ما كان في السابق، حيث كانت أقسام الشُرط – مثلاً – تستقبل البلاغ وتقوم بأعمال الاستدلال والتحقيق، وتقديم المتهم للمحاكمة، ومن ثمّ تنفيذ الحكم عليه ..!! وفي هذا إنهاكٌ لها من جهة، وظلمٌ للمتهم من جهة أخرى، فليس من المعقول أن تكون الجهة القابضة هي نفس الجهة التي تحقق وتوجه الاتهام.
ولا زلنا في المراحل الأولى لتطبيق هذا النظام، ونحتاج من الوقت الكثير والكثير، والصبر والانتظار، والاهتمام بصقل المحققين في أنواع الجرائم بتكثيف الدورات التطبيقية المتقدمة التي يتولى تقديمها القدماء من المحققين الجنائيين الممارسين للعمل الجنائي منذ سنينَ طويلة، والمتمرسين على كشف الأساليب الإجرامية التي يتقنها بعض المفسدين، وشيئاً فشيئاً سنصل بحول الله وقوته إلى المستوى المأمول من ضبط الجريمة في مهدها.
نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا من كل سوء، وأن يوفق رجال العدالة الجنائية فيما فيه صلاح العباد والبلاد.